فراشة تغادر وأخرى تأتي

         

لم يكن يعلم أن هذا اليوم سيكون نقطة تحول في حياته بهذا الشكل وكأن ما حدث غير كل شيء فيها  180درجة.
   لقد ضاقت نفسه بما حدث وكأن روحه تصعد في السماء، شعر أن سنين عمره ضوعفت مرات ومرات، لقد كان الخبر كالصاعقة دمر كل ثباته الانفعالي لكنه استدرك ذلك وصبر فإن الصبر من الإيمان، إنها حبيبة روحه ورفيقة دربه، لقد أقسما أن يسيرا في الطريق حتى النهاية سويًا، لكنها تركته في المنتصف، أحس بالحنق والغضب لأنها رحلت وتركته، وبكى كأنه لم يبك مرة في حياته، وأشتد بكاءه على الفقد، من الصعب أن تفارق من كان جزءًا من روحك، خبر الوفاة وكلمات الطبيب مازالا يرنان في أذنه، أصبح الحزن يملأ حياته حتى كاد أن يقتله لولا رحمة الله به والصبر الذي تملكه لكان الحال أسوء. 
*في طريق الحياة وسنواتها نفقد أشياء كثيرة نظن أن حياتنا بعدها هراء لكن رحمة الله ولطفه بعباده لا حد لها.*
   عند صعود روحها للسماء عند بارئها كان صوت صغيرتها يصدح كعصفور يغرد لتوه أول مرة، إن قلبها ضعيف لم يتحمل آلام الولادة واسترد الله أمانته، لم يتركه الله وحيدًا بعد زوجته، منحه طفلة رائعة الجمال تشبه أمها، عندما رأها سجد وطال سجوده وظل يسبح ربه واختلطت دموع الحزن على الفقد بدموع الفرح بالعوض، غادرت فراشة لتصل أخرى إلى الأرض مكانها، جاء العوض في نفس اللحظة.. ما أنفك يذكر لحظاته البسيطة التي حفرت عالمه ومستقبله؛ يوم سمع نبأ الوفاة ويوم وارى قلبه في التراب ويوم دخل البيت وهو يخلو منها.. من طيبها ومرحها.. من تلك البهجة التي كانت تضفيها على أي مكان تك فيه.. قلبه تحطم بفقدان أمه قبل سنوات وعندما رأها أول مرة شعر أنها العوض عن الأم ولو جزء بسيط.. وها هو اليوم يفقدها هي الأخرى.. ولسانه لا ينطق إلا (إنا لله وإنا إليه راجعون) .. وإن القلب عليكِ لمحزون...
لحظة لا يقدر على نسيانها؛ لحظة دفنه لقلبه.. إنها لقلبه حقًا..كانت لحظات بطيئة للغاية.. واراها في التراب.. ودمع يملأ عينيه ويملأ الحزن قلبه.. حتى أن بعض المطر كان ينزل من السماء.. أحس أن السماء تواسيه وتبكي معه، تشاركه الحزن....

  كبرت فتاته الصغيرة وقلبه يمتلأ حبًا لها، صارت هي رفقته وحبيبته.. بذل لها الغالي والنفيس.. كان يبذل أقصى ما يستطيع ليشعر أن طيف حبيبته سعيد وحتى تأتي له في أحلامه وتلهمه الأمل لفتاتهما.. حتى أنه قطع وعدًا على نفسه أن سيكرس حياته لصغيرته الحلوة.. حتى لتكون هي أولى أهتماماته.. أعلى القائمة دائمًا.. هي أمانة غالية وثقيلة لكنه بعون الله سيقدر عليها...
  اليوم نطقت فتاتنا أول كلمة لها..اليوم اليوم ظهر أول سنٍ صغيرة في فيها... اليوم خطت أول خطوة.. اليوم يا عزيزتي هو أول يوم لصغيرتنا في الروضة... اليوم تفوقت صغيرتنا وأصبحت الأولى على الصف... اليوم هو يوم تخرجها... اليوم تقدم أحد الشباب لخطبتها.. اليوم زفافها.. لقد أصبحنا جدين يا عزيزتي، لقد أنجبت صغيرتنا صبيًا له لون عينيك، يشبهك كثيرًا كأنه البدر.
وهكذا يكتب لها كل اللحظات ويوثقها، تلك عادة ثبت عليها منذ يوم وفاتها، كل لحظة تمر..كل حدث، ما شعر للحظة أن حبيبته ليست بجواره، إنما طيفها المحب حوله في كل مكان... 
                "بعد سنوات"
   ‏لم تعد فتاتنا صغيرة كما كانت... صارت شابة يافعة ويعتمد عليها يا عزيزتي، قد أتممت معظم وعدي، أرجو أن أكون وفقت في ذلك..
       ‏"أمي العزيزة، أرجو أن يكون لقاءك بأبي يعادل عقود الفقد، سأبدأ بالكتابة لكما منذ اليوم، حتى ألقاكم، أشتقت إليكما كثيرًا..كثيرًا، أحبك أبي، أحبك أمي" سأظل أكتب حتى النهاية وحتى تحترق النجوم..
"أمي، ظهرت أول سنٍ له، لقد بدأ ينطق الكلمات كما كنت أفعل كما اخبرني، إنه ينطق الراء غينًا، إذا تعلم الفرنسية سيصبح رائعًا فيها.. أبي..أمي: الحياة بالفقد مؤلمة لكن عوض الله لا يماثله شيء..
       ‏
بدأت قصته بالفقد والحزن واليأس وأصبحت الحياة ظلام، حتى لاح له ضوء في الطريق من السماء -أي الضوء- وأنار طريقه وحياته وتبدل كل الحزن بفضل الله فرحًا وطمأنينة، حتى نسي صديقنا مر الفقد من جمال العوض، وأكملت صغيرتهما المشوار وحدها...
لا يكلفنا الله إلا ما نقدر عليه...لا تقل لكل شيء أنه آخر الدنيا، أن الحياة أظلمت، ولا ترى الخير في كل ما حولك، من رحم المعاناة يولد الفرح، ويتبدل الحزن...

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة