لنا الصدر دون العالمين أو القبر
أشعر أنني ريشة، خفيفة، بيضاء وملساء، تسافر وتمرح في كل مكان، تتهادى من السماء.
-من أين أنت؟
--أنا من ذلك الطائر الذي يصدح بالألحان، كان بيتي ومسكني، كنت هناك منذ عرفت من أنا.
-من أنت؟ أنا ريشة بيضاء وحرة.
--إلى أين ستذهبين؟
-نحو الفضاء، أسافر مع الرياح، أرى أماكن لم يرها غيري، أزور الأدغال لأصافح الأفيال، واطير فوق المحيطات، وأرى الحيتان وهي تطلق نافورتها المميزة.
-هذا ما أريده، أن أكون ريشة، لا تفكر في المثالية، حتى أنها لم ولن تعرف أن مثل هذا الكلام موجود.
كنت أفكر في سؤال المعلمة، ماذا تريدون أن تكونوا؟ هذه رؤى عقلي الحالم، هذا ما يهمني، هل كانت رؤيتي مثالية؟ دائمًا أفكر في هذا، هل أنا مثالي؟ هل العالم مثالي؟ هل قصصي مثالية؟
الكثير من الأسئلة، أعرف أنه لا يوجد مثالية مطلقة لها معايير، أقول هذا وأنا أصرخ بقوة لكن داخل عقلي؛ حتى تغمر عقلي هذه الصرخة علها تؤذي المثالية التي تتجول به وترحل.
أشعر أنني مثالية، لا يوجد شيء هكذا في العالم، لكن أنا هنا أقول أنني مثالية، أقول وأتصرف بناءً على هذا التصور المرهق، وأكاد أجن، لا كلماتي مثالية ولا تصرفاتي حتى، لا شيء أفعله مثالي، لا شيء، من أين جاء هذا التصور، متى بدأ يزحف داخل عقلي؟ هل رماه أحدهم واصطدم برأسي، هل كانت تطير مع الهواء وجذبها عقلي ليحدد ماهيتها، ثم وقع في حبها؟
تبًا لهذا التصور المزعج، لا أعرف في العالم من فكر هكذا، ربما تستحوذ الفكرة على عقول الكثيرين، لكن لم يطرحها أحدٌ على الملأ، ربما ظن أنه الوحيد الذي يتملكه هذا الفكر، أريد أن أدخل عقلي وأغلق هذه النافذة التي تسرب داخله هواء يحمل أفكار مزعجة، أحاول وأحاول وتتملكني المثالية..
"أأنت هنا، يا عزيزتي؟" قالتها المعلمة، حتى افيق من أفكاري، أفكر وأفكر وأقرر وتجري المثالية خلفي، تخبرني أن عالمها هو الأفضل، تبدو مثل المدينة الفاضلة الموجودة فقط في عقل أفلاطون، كتب عنها الكثيرون وظلت تطير مع الهواء وتدخل من النوافذ المفتوحة لعقول الناس.
"المثالية..المثالية" هززت رأسي لعل الكلمة ترحل عني، سئمت وضقت بها وبعقلي ذرعًا، إلى متى سأظل في هذه الدائرة المغلقة؟ المثالية تجر مثالية حتى يجتاحني غضب كبير ليغمر العالم.. هل سيظل مثاليًا؟!
" عزيزتي، أين ذهبتِ؟ إنها المعلمة مرة أخرى.
"اغربي عن وجهي الآن" تردد هذا الصوت في عقلي ووددت لو قلتها بصوت عالٕ، لكن تردد صداها في عقلي فقط، ألا ترى المعلمة أنني في خضم حرب طاحنة، ستهزمني فيها جيوش المثالية الجرارة؟
تجرني مثاليتي المفرطة على طريق وعر، صحراء جرداء وتمنيني أن نهاية الطريق هي الفردوس المفقود، لكن لا نهاية للطريق، لا نهاية تلوح في مرمى بصري، هي فقط ظلال كأشباح بلا هوية، وأنا منقاض وأحاول الفرار والفكاك منها، هي قاسية لا ترحم، إما أن تكون كل شيء أو لا شيء إما السماء السابعة أو لا شيء، تذكرني دائمًا بأبي فراس الحمداني حين قال:
وَنَحنُ أُناسٌ لا تَوَسُّطَ عِندَنا
لَنا الصَدرُ دونَ العالَمينَ أَوِ القَبرُ
لكنها لا تعطيني طريقة لتحقيق هذا أو حتى لمحة أو شعاع ضوء، فقط أفكار أفكار..
ربما لو تركت الحبل، الذي تمسكني به ووقفت للحظات التقط أنفاسي بهدوء ولدقائق أفكر في طريقي الماضي والذي يأتي حينها سأرى الصورة كاملة، سأرى اللوحة والإطار..
واهنئ نفسي على ما صنعت في كسر حلقة من سلسلة المثالية، حلقة قد تجر أخواتها، عندها ترى كيف هي الحياة بلا تطلعات تكسر فقرات العنق والظهر، بلا هواجس عن الضياع..
كادت أن تهلكني مرة، وتشبثت بقشة كانت كالشجرة بعون الله، صحوت من غفلة وأضواء كالاحتفالات، كانت صحوة كالحلم، هكذا تكون الصحوة..
هادئة قوية ومتينة، بلا قسوة وإنكار للذات وفي أسوء الظروف فقرات جلد الذات التي تمتد ساعات لا أعرف كيف تنتهي غير أنها تنتهي..
المعلمة: "حان دورك يا عزيزتي، ماذا تريدين أن تكوني في المستقبل؟"
-وأنا..أنا أريد أن أكون ريشة، بيضاء، ملساء وساطعة...
إبداع ♥️
ردحذفرائعة ومسلية للغاية ودومًا رقيقة ومميزة بألفاظك، كالعادة شهادتي مجروحة في كتاباتك الجذابة.💖💖
ردحذفكالعادة رائعة ومبدعة يا صاح 💕
ردحذف